تعدّ مواضيع الفكر السياسي الإسلامي من أكثر المواضيع حيوية ونشاطا وتداولا بين المفكرين المعاصرين؛ وذلك نظرًا لتنامي الصحوة الإسلامية بشكل كبير وتأثيرها الواضح في المجتمع، وقد برزت العديد من التجارب والأحزاب الإسلامية التي تسعى كباقي الأحزاب السياسية للوصول إلى السلطة، بل قد وصلت بالفعل إلى السلطة في بعض البلدان وشاركت في السلطة في بلدان أخرى...
وعليه فقد كثر الحديث عن ماهية النظام السياسي الإسلامي وموقفه من عدد من القضايا السياسية المعاصرة التي تعد ركائز تقوم عليها الدولة المعاصرة في العالم، مثل قضايا الديمقراطية، والتعددية السياسية، وتداول السلطة، وحقوق الإنسان، والحقوق السياسية للمرأة، والموقف من الرأي المخالف وغير ذلك.
ولعل موضوع التعددية السياسية والموقف من تعدد الأحزاب من أكثر تلك القضايا طرحًا وتداولا وإثارة.. وانقسم المفكرون الإسلاميون فيه بين مؤيد ومعارض.
وسنحاول في مجموعة من المقالات تتبع تلك الآراء، واستقراء أدلة كل فريق والترجيح بينها لعلنا نخرج برؤية تساهم في حل جزء من هذه الإشكالية.
إن الصورة الحالية للتعددية السياسية والأحزاب نشأت في الغرب وتطورت إلى أن وصلت إلى الحالة التي هي عليها الآن؛ فالأحزاب السياسية هي في الأصل ابتداع أوربي، ولذلك فإنه من الضروري تتبع نشأة الأحزاب والتطور الذي شهدته المسيرة السياسية حتى تتضح الصورة من جميع جوانبها ويسهل بذلك تقييمها ومعرفة جوانب السلب والإيجاب فيها، وقبل ذلك كله ينبغي تعريف الحزب ومعرفة ماهيته...
مفهوم الحزب لغة واصطلاحا
للحزب في اللغة أكثر من مدلول وقد بيّنت كتب اللغة هذه المدلولات وأشارت إلى معاني الحزب؛ فجاء في "لسان العرب" (الحزب: جماعة الناس والجمع أحزاب، وحِزْبُ الرجل: أصحابه وجنده الذين على رأيه.. وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضًا.. والحِزْبُ: الوِرْد، ووِرْدُ الرجل من القرآن والصلاة حِزْبُهُ، والحِزْبُ: النصيب يقال أعطني حِزْبِي من المال أي حظي ونصيبي، والحِزْبُ: النَّوْبَة في ورود الماء، والحِزْبُ: الصنف من الناس، والحِزْبُ: الطائفة، وحازَبَ القوم وتحزَّبوا تجمعوا وصاروا أحزابا، وحَزَّبَهُمْ جعلهم كذلك، وحَزَّبَ فلان أحزابًا أي جمعهم.. وحَزَبَه أمر أي أصابه)([i]).
وهكذا فإن الحزب له عدة مدلولات لغوية من بينها الجماعة والطائفة وهذا المعنى يشترك مع المعنى الاصطلاحي.
أما اصطلاحا فقد وردت تعريفات عدة للحزب تأثرت هذه التعريفات بالخلفية الفكرية والثقافية للشخص الذي قام بالتعريف والبيئة الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها.
فقد عرّف الكاتب البريطاني "إدموند بيرك" الحزب السياسي بأنه "مجموعة من الأفراد اتحدت بجهودها الذاتية لترقية المصلحة الوطنية على أساس مبدأ معين متفق عليه بين المجتمع"، وعرفه آخرون على أنه مجموعة من الأفراد تسعى للوصول إلى السلطة للاستفادة من ثمارها([ii]).
وعرّفه لازويل Harold Lasswell بأنه "المنظمة المختصة بتقديم المرشحين والقضايا السياسية تحت اسمها في الانتخابات". أما كولمان J.S.Colman فقد عرّف الأحزاب السياسية بأنها اتحادات وجمعيات منظّمة بصفة رسمية ولها هدف واضح ومعلن يتمثل في حصولها، أو احتفاظها بالقيادة أو الإدارة الشرعية على الأشخاص أو السياسة الحكومية لدولة ذات سيادة حالية أو مرتقبة، سواء حصلت على هذه القيادة بمفردها أو عن طريق ائتلافي أو عن طريق المنافسة الانتخابية مع غيرها من الاتحادات أو الجمعيات المماثلة"([iii]).
ويعتبر William Cross الأحزاب السياسية من أهم مرتكزات الديمقراطية حيث يمكن بواسطتها اختيار رئيس الوزراء والوزراء والمناصب السيادية والسلطات التشريعية، وتقرر القضايا المصيرية للبلاد([iv]).
ولا يختلف المفكرون العرب كثيرًا عن الغربيين في تعريف الحزب، بل إن التعريفات متشابهة إلى حد كبير إن لم تكن متطابقة، فقد جاء تعريفه في "موسوعة السياسة" بأنه مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وإيديولوجية مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة.
بينما تصف الدكتورة "نبيلة عبد الحليم" الأحزاب بأنها ظاهرة سياسية مركبة؛ لذلك يصعب النظر إليها من وجهة نظر واحدة وإعطاؤها تعريفا شاملا؛ ولذلك فهي تعرّفه وفقًا لمدلوله التنظيمي ثم تعرّفه وفقا لمبادئه وأهدافه وتعرّفه مرة أخرى باعتبار وظائفه.. بعد ذلك تحاول صياغة تعريف جامع للحزب وهو "تنظيم يضم مجموعة من الأفراد تدين بنفس الرؤية السياسية وتعمل على وضع أفكارها موضع التنفيذ، وذلك بالعمل في آن واحد على ضم أكبر عدد ممكن من المواطنين إلى صفوفهم وعلى تولي الحكم أو على الأقل التأثير على قرارات السلطات الحاكمة"([v]).
هذا ومن خلال استقراء هذه التعريفات نرى أن هناك عناصر يجب أن تتوافر في الحزب حتى يستحق أن يطلق عليه كلمة الحزب السياسي، هذه العناصر تكاد تكون نقاط اتفاق بين التعريفات ويمكن حصرها في:
1. مجموعة من الأفراد: إذ لا يمكن أن يطلق على أي تنظيم حزب ما لم يكن له أعضاء ومؤيدون وجماهير ولا يطلق على الشخص الواحد حزب مهما كانت لديه أفكار وبرامج ما لم يلتف حوله الناس والجماهير.
2. الإطار الفكري: لا بد أن يربط مجموعة الأفراد هذه رابطة فكرية، بمعنى أنه يجب أن يجتمع هؤلاء الأفراد على بعض المبادئ والأفكار ويكون لهم برنامج واضح المعالم.
3. الإطار التنظيمي: الرابط التنظيمي شرط أساس للحزب فلا بد من وجود نوع من العلاقة التنظيمية بين أفراد الحزب؛ إذ إن الحزب يهدف إلى كسب أكبر عدد ممكن من الجماهير إلى صفوفها، وهذا يقتضي وجود قوالب وأشكال تنظيمية تستوعب هؤلاء الناس وتوظف طاقاتهم وتوزّع الأدوار بينهم.
4. الهدف السياسي: وهو الوصول إلى السلطة، ويعد هذا العنصر الأساسي الذي يميز الحزب السياسي عن غيره من التنظيمات؛ فهناك تنظيمات عدة تشترك مع الحزب في العناصر السابقة مثل الجمعيات الثقافية والنقابات المهنية وجماعات الضغط التي هي كلها عبارة عن مجاميع من الأفراد يجتمعون على بعض المبادئ وقد توجد روابط تنظيمية بينهم، ولكن ما يميز الحزب عن هذه التنظيمات هو أن هذه المجاميع لا تسعى للوصول إلى السلطة؛ فهذه الجمعيات تسعى لنيل حقوق شريحة معينة مثلا كما هو الحال في النقابات المهنية، أو تسعى لحل بعض المشاكل والأزمات الآنية، وعليه فإن المعيار الوحيد للفرق بين الحزب السياسي وغيره من التنظيمات هو الهدف السياسي.
وبهذا فإن أي تجمع أو تنظيم تجتمع فيه العناصر السابقة يمكن أن يطلق عليه "حزب سياسي"، علما أن ما ذكرناها هي العناصر الأساسية وقد توجد عناصر أخرى للحزب السياسي مثل القيادة والإدارة والعنصر المالي وغيرها...
الحزب في القرآن الكريم والسنة النبوية
وردت كلمة حزب في القرآن الكريم 20 مرة في 13 سورة، وردت 8 مرات بصيغة المفرد([vi])، ومرة واحدة بصيغة المثنى([vii])، و11 مرة بصيغة الجمع([viii])، وهناك سورة كاملة باسم الأحزاب، ومن خلال استقراء هذه الآيات يتضح أن الـ"حزب" في القرآن يفيد بشكل عام معنى الترابط المنظم، سواء أكان في الخير أو الشر.
فقد ورد بمعنى الأنصار والأتباع كما في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة/19)، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة/22). وقد ورد بمعنى الجماعة كما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكهف/12).
كما أطلق لفظ الأحزاب على الذين تآمروا على الرسول r وتجمعوا لمحاربته كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب/22).
وبعد استقراء معاني الحزب في القرآن الكريم نصل إلى الحقائق التالية:
1. وردت كلمة الحزب تارة بمعنى المدح مثل "حزب الله"، وتارة بمعنى الذم مثل "حزب الشيطان"، وتارة بشكل عام مثل قول الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون/53).
2. لا يفيد مصطلح الحزب في القرآن الكريم المعنى الاصطلاحي المعاصر له والذي يعني جماعة سياسية تسعى للوصول إلى السلطة، وإنما يفيد المصطلح الجماعة والطائفة بشكل عام، ثم يُعرف ماهية هذه الجماعة من خلال ما يضاف للحزب فيكون ممدوحا مثل "حزب الله" أو مذموما مثل "حزب الشيطان". أما المصطلح بحد ذاته فليس بمذموم ولا ممدوح.
أما في السنة النبوية فقد ورد الحزب كما في القرآن الكريم بمعان متعددة وهي لا تخرج عن المعاني التي حددتها معاجم اللغة والتي ذُكرت سابقا.
فقد جاء بمعنى الوِرْدِ اليومي للقرآن ومنه قول الرسول r: "طَرَأ عليّ حِزْب من القرآن فأحبَبْت أن لا أخْرُج حتى أقْضِيه"؛ فالحِزب هنا ما يجعله الرجُل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرْد.. وقد وردت الأحزاب بمعنى الطوائف، ومنه حديث: "اللهم اهْزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزَلْزِلهم".
بعد بيان معنى الحزب في اللغة وتوضيح مفهومه في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك بيان المفهوم الاصطلاحي للحزب السياسي وبعد سرد عدة تعريفات لمفكرين غربيين وعرب، والتي من خلالها توصلنا إلى العناصر الأساسية للحزب السياسي، بعد هذا كله حريّ بنا أن نتعرف على وظائف الأحزاب، كي تتجلى تجربة التعددية السياسية بشكل أكبر، وهذا ما سيتناوله المقال التالي إن شاء لله